كنت مسئولا في الحكومة وكنا نواجه أحيانا قضايا مرفوعة من
قبل بعض الموظفين ممن لهم حقوق مالية إزاء الحكومة,وبخلاف حججنا
القانونية يحكم القاضي لصالح الموظف الضعيف , بل يصدر أمرا آخرا بتنفيذ
الحكم, ولا أخفيكم أنه كانت تخالطني مشاعر الفخر والاعتزاز بقضاء وطني,مما
يكرس مبدأ استقلالية القضاء,وهذا ما لم أشعر به وأنا أطالع حكم قاضي محكمة
أبوظبي الابتدائية الاتحادية بشأن طعن المواطنون السبعة على قرار سحب
جنسياتهم, وما يوحيه منطوق الحكم من عدم جواز الطعن على إجراءات وزارة
الداخلية بسحب وثائق الجنسية.
لم يستطع قلمي حتى الساعة أن يجد مبررا معقولا لرفض القاضي
الطعن على إجراءات وزارة الداخلية وهي المسئولة عن منح وسحب الجنسيات ,وإن
لم تكن وزارة الداخلية هي الجهة المسئولة عن تنفيذ قانون الجنسية فمن هو
المسئول إذا؟
مما لا مراء فيه أننا نحترم القضاء ,ونبجل أحكامه ,ذلك لأنه
لا حياة آمنة وعادلة إلا في ظل سلطة قضائية,فالقضاء العادل أساس الملك ,
وملجأ المظلوم , وبوابة الحق ,وميدان الصراع السلمي بين الخير والشر, ولكن
إذا تعدت السلطة الأمنية على حرمته فيعد مؤشر خطير وجب الإشارة إليه .
ما يثير المرء وهو يتابع المشهد العام للمواطنين السبعة
وأحكام القضاء بشكل خاص,أنها تضمنت سيلا من الانتهاكات التي تؤرق فقهاء
القانون وتقوض دور ركن أصيل من أركان الدولة , ولي في ذلك بعض الملاحظات
أبديها فيما يلي:
إن أول تلك الانتهاكات المصاحبة لهذا المشهد الكارثي الذي
تحتضنه الدولة,التجني على حقوق المواطن الإنسان ,ذلك أنه من غير المعقول
أن يمتحن المرء في التخلي عن وطنه أو أن يعتقل ويحبس, مما يعني التزامه
قسرا على الاعتراف بكارثة سحب الجنسية أو حجزه في غياهب السجون , ويتجلى
مشهد انتهاك إنسانية المواطن في رفض القضاء قبول الطعن ,ناهيك عن الفشل في
تنفيذ أبجديات حقوق السجين وهو التواصل مع محاميه وأهله وأحبابه .
من السذاجة أن أدعي أن القاضي لم يطلع على قانون الجنسية
ولم يكن ضمن أدواته أثناء حجز القضية للحكم, ويعي القاضي أنه وفق المادة 15
من قانون الجنسية لايجوز سحب جنسية مواطن أو إسقاطها إلا في حالات
ثلاث: التجنّس بجنسية دولة أجنبية, أو الالتحاق بالخدمة لدى قوات مسلحة
لدولة أخرى،أو العمل لمصلحة دولة معادية,وهي لا تنطبق على أي من السبعة ولم
يقم أي دليل عليها.
لا أستطيع أن أخفي دلائل الانتهاك الخفي لحرمة القضاء,
وتعزيزا لمبدأ عتيق جديد يعتمد على منطق القوة,ونفوذ شديد يخترق كافة
السلطات ,فالقوي هو الذي يصنع الحدث و يتحكم في إدارته ونتائجه ,
وتُفوّضه لغة الاستبداد في إصدار المرسوم- هذا إن صحت رواية إصداره-
ومتابعة تنفيذه ثم الوقوف على حكم القضاء لإنتاج فيلم ينال إعجاب من أخرجه.
إن هذه النازلة الوطنية حيّرت العالم أجمع , وأنتجت ظاهرة
المواطن ذو الشخصية المزيفة ,وهو المواطن الذي كُبتت مشاعره وتقمص شخصية لا
تمثل حقيقته , ويحمله على ذلك اتقاء شر السطوة الأمنية ,وفَهْم الرسالة
التي مفادها أن هذا العقاب سيطال كل من تُسوّل له نفسه للتعبير عما يجول في
خاطره بشفافية وحرية.
من القضايا المعيقة للمواطن الحر المبدع والمحب لوطنه, أن
تنتشر ثقافة الخوف في مجتمعة,فيصبح الموظف خائفا على راتبه,والمسئول خائفا
على منصبه,والعسكري خائفا على ترقيته, ورجل الأعمال خائفا على مصالحه,
والوزير خائفا على حضوته , ناهيك أن تخاف أو على الأقل أن تصمت الرافعة
الشرعية للشعب ممثلة بالمجلس الوطني الاتحادي.
أنتجت السلطة الأمنية في أعقاب مشهد السبعة ثقافة العقاب
الجماعي لكل من يطالب بحريته أو يعترض على تلك الانتهاكات , فشمل العقاب
سحب الجنسيات ,وفصل من الوظائف ,والتهديد بسحب جنسيات الأمهات
أوالآباء,والإحالة إلى التقاعد أو الإقالة,وتحريك قضايا وهمية والتخوين
ورمي كل مواطن حر بأبشع التهم من الخيانة والسرقة والاغتصاب وغيرها.
ما تصدره الدولة من وثائق يعد المرجع الأصيل للإحتكام أمام
القضاء إلا في مشهد المواطنين السبعة , ذلك أن المُدوَّن في خلاصة قيدهم
بأنهم يتمتعون بجنسية الدولة بحكم القانون لا يعد مستندا رسميا تعترف به
السلطة الأمنية ولا وثيقة رسمية يستند إليها القاضي.
هناك انتهاك آخر لقانون الإجراءات الجزائية, حيث لا يسوّغ
لوزارة الداخلية بالتوقيف لأكثر من 48 ساعة , ولا للنيابة العامة احتجاز
المتهم لأكثر من 21 يوما, وهذا ما لم تنفذه الجهات المختصة في الدولة , حيث
مضى على سجن السبعة 57 يوما لدى وزارة الداخلية دون محاكمة ولا تدخل
النيابة العامة ولا زيارة أهل !
إن النائب العام في وطني إما أنه تغيرت اختصاصاته دون أن
ندري أو أنه لم يعي بعد مهمته , ومما يبعث على الحيرة أنك لا تسمع له رأيا
أو تعليقا أو حتى همسا إزاء قضية كبرى تعد مفصلية في تاريخ الدولة, ينتهك
فيها قانون الإجراءات الجزائية , وأملي فيه أن يسترجع قسمه التالي:”أقسم
بالله العظيم أن أؤدي عملي بالذمة والصدق وأن أراعي العدل دون خشية أو
محاباة وأن أخلص لدستور دولة الإمارات العربية المتحدة وقوانينها”.
من يعمل في الحكومية الاتحادية يعي تماما خطوات إصدار
مرسوم أو قانون اتحادي, وللإفادة يشترط لإصدار مرسوم مذكرة من الوزير
المختص تعرض على مجلس الوزراء ,على إثرها يُعد في حالة موافقته مسودة قانون
ممهوراً بتوقيعي الوزير المختص ورئيس مجلس الوزراء تمهيدا للعرض على رئيس
الدولة لاعتماده, على أن ينشر المرسوم أو القانون في الجريدة الرسمية, وهذا
ما خالفته النسخة المخفية من المرسوم المزعوم بشأن سحب الجنسية عن السبعة .
أدري أن المرسوم يصدره رئيس الدولة ومعتمدا من أصحاب السمو
أعضاء المجلس الأعلى للإتحاد, ولكن ما وجب التنويه إليه عدم الخلط مابين
مقام من أصدر المرسوم وما يتضمنه المرسوم, ذلك أن المرسوم بُني على دراسات
وتوصيات إدارية ووزارية تحتمل الخطأ والصواب , ومن يتابع الشأن الحكومي يجد
أن عددا من المراسيم وقرارات مجلس الوزراء يتم إلغاؤها أو تعديلها بعد
اكتشاف خطئها أو مخالفتها لدستور وقوانين الدولة, وهذا لا يعد مخالفة لولي
الأمر ولا يرقى لمرتبة أعمال السيادة كما تصوره الأجهزة الأمنية.
يستطيع المرء أن يبرر تلك الانتهاكات في بلد آخر غير
الإمارات , ولكن يصعب عليه أن يجد نفس العذر في بلدنا , ذلك أن ما تعانيه
الدولة من ندرة المواطن وأزمات أخرى لا حصر لها ,تحول دون إسقاط أو سحب
جنسية أي مواطن فما بالك بمواطن صالح ومنتج.
لقد استبقت السلطة الأمنية حكم المحكمة وتدخلت بقوة لحرف
القاضي عن الوصول للحقيقة, اعتقادا بأنها تسير نحو الصواب,ولا تدري أنها
بتلك الانتهاكات ,ترتكب جَوْراً لا يغفره التاريخ, وتشير يقينا إلى ضعف
حجتها ,وإيذانا ببدء نفاد رصيدها لدى الشعب ,لتتحول الكفة لصالح المعتقلين
السبعة , وإن كانت تلك الحقيقة ما زال يسترها قلب المواطن الخائف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق